بين هلالين



صليت لمدّة أسبوعين صلاة الظهر والعصر في مصلى الإمام الخميني (ره) في مقام السيدة زينب (س) وكنت ألقي كلمة قصيرة بين الصلاتين. قلت في أحد الأيام: لقد جرت سنة أئمة الجماعات على أن يتحفوا المصلين برواية شريفة أو آية قرآنية أو مسألة شرعية، ولكن بودّي أن أقص عليكم اليوم قصّة خيالية لعلّها تحدث لأحدكم لا سامح الله. وهي أن تُ يومَ القيامة وبعد الحساب والكتاب تُفتح لك أبواب الجنان لتدخلها خالدا فيها. ولا يسع أحدا أن يتصور مدى فرحتك يومذاك. فبينا أنت ذاهب إلى الجنة مباهيا أهل العالم بما نلته من فوز عظيم، ترى شابّا وسيما جميلا نيّرا عظيم المنزلة والمقام. فيستحيل زهوك تواضعا وخشوعا لمقامه الرفيع ونور وجهه الباهر. فتسلّم عليه بكل إعظام وتسأله: من أنت يا سيدي ومولاي؟ أنبيّ مرسل أم عالم جليل أم صدّيق من الصدّيقين أم ماذا؟

فيقول: لست أنا أحدا ممّا ذكرت. وإنما كنت شابّا أسكن في أحد غياهب أفريقيا. زرت السيدة زينب (سلام الله عليها) في أيام الغيبة قرب الظهور مرّة واحدة. فخاطبتها وقلت: سيدتي ومولاتي! لقد سمعت أن هذه السنين والأيام التي نعيشها هي أيّام عصر الظهور ولعل الإمام المنتظر (عج) سيظهر قريبا. وعلمت أن لأصحاب الإمام والمستشهدين بين يديه مقاما عظيما عند الله. فطمعت بذلك وجئت أطلب هذا التوفيق منك. لا أدري هل لك حصّة في إعداد قائمة أنصار الإمام المهدي (عج) أم لا؟ وهل بإمكانك أن تشفعي لي عند الله وعند الإمام لأكون من أنصاره أم لا؟ ثم لا يخفى عليك يا سيدتي ومولاتي ويا عقيلة بني هاشم أن لا فسحة لي من الوقت لأزورك مرارا وتكرارا وأعيد عليك حاجتي وأطلبها منك خلال أيام وشهور. فإن هذه هي زيارتي الأولى وأظنها الأخيرة.

ثم رجعت إلى بلدي ومضت بعد ذلك بضع سنين ثم ظهر الإمام والتحقت بركب أنصاره وأصحابه واستشهدت بين يديه. وعلمت بعد ذلك في عالم البرزخ أن توفيق استشهادي بين يدي الإمام كان على أثر زيارتي للسيدة زينب (س) وهي التي شفعت لي عند الله وعند الإمام المنتظر (عج).

ثم ينظر إليك بتأمل ويقول: يبدو من شكلك ولهجتك أنك سوري! فما الذي حصلته من السيدة زينب (س) طيلة سنين حياتك في جوارها؟! 

كلنا سمع بقصة أم موسى (ع). فإنها بعد ما أنجبته في تلك الأيام المتوتّرة والأجواء المتكهربة والظروف العصيبة على كلّ ولد فضلا عن موسى(ع)، خافت عليه وظلّت لا تدري كيف تحافظ عليه. فأوحى الله إليها وأعطاها وصفةً كانت بوصفة الموت والهلاك أشبه منها بوصفة النجاة والحياة. (وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى‏ أَنْ أَرْضِعيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافي‏ وَ لا تَحْزَني‏ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلين‏) [القصص/ 7]. ما هو الدرس الكامن في هذه القصة وما هي العبرة التي تؤخذ منها؟

هل رسالة هذه القصة هي أن نرمي بأولادنا في الشط إن خفنا عليهم؟! وهل قد تصدّت هذه القصة لإعطاء طريق للحفاظ على كل شيء عزيز وغالي؟! بالتأكيد كلا. إذن فما هي رسالتها؟

ثم لا يخفى أنه لا يسعنا أن نعتبر هذه القصّة تحكي حدثا استثنائيّا لن يتكرر بعد أبدا. فلو كانت القصّة استثنائية ولا تعبّر عن قانون ثابت فما الداعي من ذكرها في القرآن الذي أراد أن نتدبر في آياته ونتفكر في قصصه (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون‏) [الأعراف/ 176]؟ فكيف نفكّر فيها وما هي النتيجة التي يمكن أن نخرج بها عبر التفكّر في هذه القصة؟ أفهل هناك حقيقة ثابتة وقانون دائم تحدثت عنه؟

من خلال هذه القصة نفهم أن الله سبحانه وتعالى لا يخالف أهدافنا وغاياتنا التي نصبو إليها. فإذا كنّا نحب الراحة والسعادة واللذة والجاه والأمن والبركة والثروة والصحة والعزّ والأمان، فإنه سبحانه لا يخالف شيئا منها بل هو الذي زرع حبها في قلوبنا لسنعى إليها. ولكنه سبحانه ومن أجل نيل هذه الأهداف في الدنيا قبل الآخرة قد وصف لنا وصفات وأرشدنا إلى طرق هي أبعد ما تكون بحسب ظاهرها من هذه الأهداف. فلا يتخذها ولا يسلكها إلا من وثق بالله وآمن به.

لقد أراد الله لنا الغنى والبركة في المال، ولكنه جعل الإنفاق واكاة طريقا إليه. وأراد لنا العز والأمان فجعل الجهاد طريقا إليه. وأراد لنا الرفعة والجاه العظيم، وجعل التواضع طريقا إليه. وأراد لنا الاستمتاع بلذات الدنيا فجعل الإمساك وغض السمع والبصر طريقا إليه. فإنه سبحانه تعالى قد ملأ الدنيا بالطرق غير المباشرة. فترى كلما كان الأنبياء يرشدون الناس ويهدونهم إلى هذه الطرق، استهزئوا بهم (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُن‏) [يس/30]. 


تصوّر شابّا فقيرا مجدّا نجح في الجامعة في اختصاص جراحة القلب، وهو على وشك أن يصبح جراحا حاذقا يجري العمليات ويحصل على راتب ضخم وأجور عالية جدّا. أما الآن فلا يملك هذا الطالب شيئا سوى وريقات تكفيه بالكاد لدفع أجور الذهاب والإياب إلى الجامعة ومنها إلى بيته، فإذا بقي منها شيء ربما سدّ بها جوعه بشطيرة، وإلّا فيمسي جائعا. ولكن كل هذا العناء ومقاساة الفقر لا ينال من سعادة هذا الطالب شيئا، لأنه آمل في مستقبل زاهر وحياة سعيدة. إنه مغتبط بمستقبله جدّا حتى صار إذا مرّت به سيّارة فخمة لا يخفق لها قلبه، إذ يرى أن هذه السيارة دون شأنه وما هي إلا بضع سنين وسيشتري سيارة أفخم منها بكثير وأرقى. وإذا مرّ بقصر جميل، مرّ منه مرور الكرام ونظر إليه نظرة ازدراء إذ يعتقد أن لا قياس بين هذا القصر وما سيشتريه غدا. فتراه يعيش شعور الأغنياء ويحيى حياة السعداء وهو لا يزال شابا مفلسا صفر اليدين.

هذا هو شعور المؤمن في هذه الدنيا. فإنه يأمل في حياة سعيدة ذات لذة لا توصف وسعة لا تنتهي إلى مدى. فما إن وقع نظره على شيء من حطام هذه الدنيا ممّا لا يقدر على شرائه الآن، لم يكترث به ولم يأخذ من قلبه مأخذا، إذ يرى أن لا قياس بين هذا وبين ما سيملكه غدا.


من الساعات المؤلمة على خادم الحسين(ع) من أصحاب المواكب هي ساعة نفاد ما يستضيف به زوّار الحسين(ع). تراه نشطا مغتبطا مستبشرا ما دام قادرا على تقديم شيء لوّار السائرين على أقدامهم إلى أبي الأحرار(ع)، ولكن ما إن ينتهي زاده وتصفرّ يدُه، يخامره شعور هو أشبه شيء بالخجل والانكسار! إن هذا الشعور نفسَه، ولكن بشكل أشدّ، يعتري الشابّ المجاهد في سبيل الله أيضا إن أصيب بجرح في جسمه ووجد نفسه عاجزا عن القتال بعد اليوم، فإنها ساعة قاتلة عليه. والله يعلم كم يؤجر المجاهد الجريح على معاناته من هذا الشعور المؤلم والخفيّ! وكذلك ما أصعبه من شعور على من اعتاد أن يقيم مجلسا حسينيّا في بيته كلّ عام، ثم يأتيه عام لا يجد لذلك حولا ولا قوّة! ويعزّ على الخطيب أو الناعي أيضا إن أصيب في حنجرته وصوته فأصبح عاجزا عن ارتقاء المنبر. طوبى لخدّام الحسين(ع) المخلصين الذين اتخذوا هذه الخدمة هويّةً لهم، ولم يجدوا لأنفسهم رأسمالٍ سوى ما يخدمون به سيّد الشهداء(ع). وما أحلاها من حياة يتخذها المرء فرصة لخدمة الحسين(ع) وحسب. فيرى الحسين(ع) حاضرا في حياته معيناً على توفير أسباب خدمته. وساعد الله قلوب هؤلاء الخدام في ساعة انتهاء شوطهم ونفاد رأسمالهم! إن الشهداء وخدّام الحسين(ع) جميعا سيغبطون العباس(ع) على ما سيناله من مقام عظيم! كيف لا، ولا أحد منهم قد ذاق ما ذاقه العباس(ع) من مرارة الخيبة واليأس، يومَ سلبه الله كلّ أسباب الخدمة والنصرة لأخيه الحسين(ع) حتى وقف العبّاس متحيّرا.


يارة أمير المؤمنين(ع) في موسم الأربعين طعم خاص. لا يعود بإمكان اائر في هذا الموسم أن يدخل الحرم الشريف كباقي الأيام، وقد لا يخلو له مكان ليقف أمام الضريح ويباشر زيارته كعادته، إلا أنّ ضجيج الناس واندفاعهم صوب قبر أمير المؤمنين(ع) وتحمّسهم لاستلام الضريح ودويّ ندائهم: حيدر حيدر وهتافهم "لبيك يا علي" له وقع في قلب اائر. كأنهم يريدون أن ينتقموا من التاريخ وأهله إذ همّش أمير المؤمنين(ع) وعزله عن مركز قيادة الأمة، فراح يعيش في غربة ووحدة. كأنهم يريدون أن يجبروا ذاك الصمت القاتل الذي غمر تلك الأمة البائسة الخاذلة لأمير المؤمنين (ع) حيث كان يناديهم ويستنهضهم ويصرخ بهم، وهم أشباهُ الأمواتِ بلا صوت ولا نفس! ترى قلوب اائرين حرّى فمهما ينادون ويضجّون ويصرخون لا يبرد غليلهم من مصابهم بغربة علي(ع) في أيام حياته، حيث لم يُعرف قدرُه ولم يحتفِ به قومُه! لقد جاؤوا من أقصى أنحاء العالم ناقمين على تلك القلوب القاسية التي لم تعشق عليّا فجاءوا وكأنهّ لا حاجة لهم سوى أن يعبّروا عن حبّهم لأمير المؤمنين(ع) بأعلى أصواتهم. إن الأيام والأحداث الراهنة تبشّرنا بقرب زوال آل سعود، فما هي إلا أيام قلائل إن شاء الله ويَرحُب مسجد النبي(ص) لهؤلاء اوّار مع حرارتهم فيهبّون إلى ضريح النبيّ دون أن تزاحمهم لحية طويلة أو دشداشة قصيرة، فيرجّون جدران المسجد وأعمدته بشعارات حبّ علي(ع). لا أظنّ هذه الصرخات الولائية هي ممّا يؤذي النبي ولا أظنها معنيّة بقوله تعالى: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَرۡفَعُوۤا۟ أَصۡوَ ٰ⁠تَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِیِّ). فما أشوق النبيّ(ص) إلى حرارة هؤلاء اوّار وصرخاتهم وما أقرب اللقاء إن شاء الله.


لا يُدرى من بين الملايين من خدّام الأربعين وزوّاره أيهم أوفر حظّا وأعظم أجرا؟! ومَن السبّاق في ماراثون الأربعين؟ إن قواعد الحساب لدى الله تضرب بقواعد الرياضيات عرض الجدار، فليس من اليسير بل من المستحيل أن نعرف خير زائر وأفضل خادم من بين هذه الجماهير المليونية. فلعلّ الأم أو اوجة التي تعدّ حقيبة زوجها أو ابنها لتودّعه إلى ايارة بلوعة الشوق واللهفة إلى قبر الحسين(ع)، دون أن تجد إلى ايارة من سبيل، هي لا تقلّ أجرا ممّن أرسلته وودّعته بعين مغرورقة بدمع الحسرة والغبطة. ولعلّ خطواتها في توديع ابنها أو زوجها تعدّ من تلك الخطوات التي تُقَيَّم بالحجّات والعمرات! ولعلّ ذاك اائر الذي يشدّ رحاله وينطلق إلى حدود العراق ثمّ لا يجد أبوابها مفتوحة ولا يجد وسائل النقل موفّرة فيرجع خائبا منكسرا بعد ما انقطعت به السبل، هو لا يقل أجرا من اائر الذي تهيّأت له الأسباب وزار الحسين(ع) واقفا على الأعتاب. وما يدريك فلعل العمل الذي لا يحسب بين الناس بشيء ولا يُعَدّ في قائمة مفاخر صاحبه هو أزكى عند الله وأبقى. ليتنا نعرف من أي يد سيتقبّل الإمام المهدي(عج) كأس ماء في طريق الأربعين وأي دعوة سيستجيبها. فلعلّ تلك اليد لا تملك سوى طبق فيه عدة كوؤس من ماء وحسب! وليتنا نعرف في أي موكب سينزل الإمام ويَطعَم، فلعلّ ذاك المنزل لا يُحسب حسب معاييرنا بموكب أصلا ولا يطمع زائر في النزول عنده والأكل منه. لقد سبق السبّاقون بنواياهم الخالصة وآمالهم الراقية فبلغوا بذلك ما لم يبلغه أهل المفاخر والتكاثر!


إن مشاهد الرحمة والرأفة التي يعيشها اائر خلال أسبوع في مسيرة الأربعين أكثر في كمّها وكيفها ممّا يشاهده الغربي في بلده خلال عام.
وأنّى للثقافة الرأسماليّة والفكر الأوماني القائم على الأنانيّة وأصالة اللّذة أن يبلور في الإنسان الخصال الإنسانية النبيلة كالرحمة والرأفة والإيثار والجود والسخاء؟!
مهما غُلّفت الأخلاقُ التجاريّة بغلاف مكارم الأخلاق فإنها لا تترك في النفوس أثرها، بل تدع أبناء بيئتها البائسة متعطشين إلى جرعة أخلاق حقيقية غير مزيّفة.
تعساً لحضارة بلّطت شوارع مدنها ولكنها هدمت جسور التواصل بين القلوب، وتبّاً لحضارة أغنت أبناءها - لو أغنتهم فعلاً - ولكنّها أفقرتهم عاطفيّا، فاستشرت بينهم شتّى الأمراض والعقد النفسيّة.
حسبنا من السعادة أن نعيش في مناخ حبّ أهل البيت والتحابب فيهم(ع) وإنه لمناخ لا تقدر على توفيره الحضارات الأخرى، مهما أنتجت من أفلام الحب والغرام، ومهما اصطنعوا نكات توحي بأن الغربي أعرف بالحب والمودة من ابن العراق!


ما أكثر ما يُواجَه اائر بهذا السؤال غير الوجيه: "هل استلمت الضريح؟" فصار كثير من اوّار يزعم أن ايارة من دون استلام الضريح غير مضبوطة، فلا تهنأ له ايارة إلا إذا استطاع أن يشقّ طريقا من بين الازدحام إلى الضريح. فإن قدر على ذلك رجع إلى أهله مسرورا مرفوع الرأس، وإلّا رجع خائباً! ليتنا كنّا ندع هذا السؤال جانبا، لكي لا يشتبه الأمر على بعض فيزعم أن قد أفلح اليوم من استقوى! إن استلام الضريح عمل جيّد وعظيم بلا ريب، ولا يحلو للضريح أن يُترك خالياً، ولعل اائر إن استطاع أن يقبّل الضريح ولم يفعل فقد جفا، كما أن الاندحاس حول الضريح وسط تدافع اائرين مفيد لأوجاع الجسم والروح معاً، ولا داعي للتثخين في مراعاة حال اائر وعدم التزاحم على الضريح، فإن كلّ من خاض هذه الغمرات قد وطّن نفسه على الدفع والدحس وهنيئا له ذلك. كلّ الكلام هو أن لا نجعل قيمة ايارة مرهونة بوصول يدنا إلى الضريح، ولا نجعل ذلك آخر همّنا في ايارة، فإن قيمة ايارة بمدى اتّصال قلب اائر بالإمام(ع). أئمتنا كرام عظام، فلا يخيّبون اائر مهما أمكن، ويستضيفونه كما يهوى ويأمل. فإن كان همّه الأخير أن يستلم الضريح، أخذوا بيده وجرّوه إليه لكي لا يرجع خائبا. ولكن إذا جاء اائر آملا في أن يتّصل قلبُه بالإمام(ع) ويقضي ساعة خلوة معه، فيناجيه ويصبّ دموع البهجة والشوق عنده ويستمتع بلذّة القرب منه، فمثل هذا اائر أيضا لا يُهمل في الحرم ليرجع خائبا، بل يعينه الإمام(ع) على ما يصبو إليه من زيارة روحانيّة. وإن ارتقى في درجته وسئم هذا القدر من الاتصال الروحي وتمنّى أن يسمع صوت الإمام أيضا، وإلّا رجع خائبا منكسرا، تكلّم معه الإمام(ع). وإن سما بنفسه أعلى واشتاق إلى رؤية وجه الإمام(ع)، أراه وجهه. وهكذا ترتقي جودة ايارة إلى غير ذي مدى. كل ذلك كرامة من الإمام وحرصا منه على أن لا يرجع اائر منكسرا خائبا من قبر ابن نبيّه(ص)، ولا يشعر بأن الإمام غير مكترث به. كلما استطاع اائر أن يتصل قلبه بالإمام بشكل أعمق ويناجيه في حاجاته الأرقى وآماله الأسمى وقضاياه الأهم والأبقى، فزيارته أثمن وأجمل، سواءٌ أقَدِر على استلام الضريح أم لم يقدر. فلو كنّا نتساءل بعد ايارة - ولو مزاحاً - "هل رأيت الإمام؟ هل سمعت صوته؟" لكنّا أحسن حالا.


إن الفتن والأحداث التي تجري على أمتنا الإسلامية تثبت أن كل حركة شعبية في أي مكان، إن كانت غير مرتبطة بالقيادة الشرعية المتمثلة بوليّ امر المسلمين الإمام الخامنئي دام ظله، فمصيرها الانحراف عن أهدافها. فلا سبيل أمامها إلا أن تُسرَق أو يندسّ بين جمهورها من يحرفها عن أهدافها وأغراضها الأصيلة الأولى، ومن ثَمّ لا يجني الشعب من ثورته ما كان يرجو. لم تكن سنن الله تسمح بنجاح شعب وغلبته على أعدائه من دون قائد. ومما لا شك فيه أنه إن اتُّبِع القائد الجاهل غير المطبوخ الذي لا يَهِدّي إلا أن يُهدى بدلا من القائد الشرعي الحقيقي، فلا يزيد الطينَ إلا بَلّةً ولا يُقيل لأتباعه زلّة.


إذا استطاع الشيطان أن يخدعنا ويجعل قضيّة الحسين(ع) مجرّد طقوس وفلكلور وحسب، بعيدة عن معادلات الحياة وفي معزل عن حضارتنا وأخلاقنا وسياستنا واجتماعنا، فعند ذلك لعلّ أحدنا يستقبل اائر بكل رحابة ويقدّم له كلّ خدمة، ولكن ما إن ينتهي هذا الموسم قد يأتينا نفس هذا اائر ويراجعنا في دائرة لاستيفاء حق من حقوقه، وإذا بنا لم نعد نهوى الضيافة ولا نتنافس على الخدمة، ولا كأن هذا المُراجِع محبّ من محبيّ  الحسين(ع)!
ولعلّ هذا اائر نفسَه يصطدم بسيّارتنا باصطدام خفيف يترك عليها خدشاً بسيطا، وإذا بنا نقيم الدنيا عليه ولا نقعدها، ثمّ نخاطبه بلغة التهديد كما يخاطب العدوُّ عدوَّه، ونطالبه بأضعاف ما ترك هذا الخدش البسيط من ضرر.
ولعلّنا نستقبل اائر الإيراني في موسم الأربعين بكلّ رحابة، ونقيم الشعائر الحسينيّة رغما على آل سعود وبقايا حزب البعث. ولكن ما إن ينتهي موسم الأربعين، نرفع لافتات ونهتف بهتافات لا تخدم الأربعين وقضيّة الحسين(ع) قطعا، بل ويطرب لها آل سعود وتصفّق لها إسرائيل. 

هذا حال من لم يتخذ الحسين(ع) منهجا للحياة، وضيّق مداه في طقوس وشعائر لا تتعدّى نفسَها. إن ما شاهدناه من قلّة قليلة من بعض الشيعة ومحبّي الحسين(ع) من تصرّفات مقزّزة وهتافات باطلة، هي ناجمة عن الفصل بين قضية الحسين(ع) وبين الحياة.


الشيعي الذي يزور الحسين عليه السلام ويقيم المجالس عليه أو ينصب موكبا باسمه ويقرأ ايارات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، ثمّ لا يسعى لتنظيم ولاءاته وعداواته على أساس قيم الحسين(ع) وأصول ملحمة عاشوراء، فكبّر عليه خمساً!
لم تدعنا ثورةُ الحسين(ع) أن نُطلِق سراح ولاءنا وعداءنا ينسابان حيث نشاء، فنوالي ونعادي من شئنا دون منهج أو معيار.
المعيار الأول والأخير هو خط الحسين(ع) ومدرسته. هذا هو المعيار الذي يجب أن يكون نصب أعين محبّ الحسين(ع) وخادمه، فيحبّ من أحب الحسين(ع)، ويبغض من أبغض الحسين(ع)، ويوالي من والاه، ويعادي من عاداه وأن يكون سلما لمن هو سلم له، وحرباً لمن هو حربٌ له.
لقد أراد أهل البيت(ع) من شيعتهم أن يشدّوا الرحال إلى كربلاء ثم يقفوا عند قبر الحسين(ع) ويعاهدوه على الالتزام بهذه المواقف دون غيرها.
فيا حسرةً على بعض الشيعة الذين زعموا أنّهم خدّام الحسين(ع) وأنصارُه، ولكنّهم تركوا أعداء الحسين(ع) وأعداءهم الذين تقطر دماء أبناء العراق من أنيابهم ومخالبهم من أمريكا وإسرائيل وآل سعود وأيتام صدّام وداعش، ثمّ خرجوا يهتفون ضدّ إيران! فما أبعدهم عن قيم الحسين عليه السلام.


إن علامة السفهاء السطحيّين على مرّ التاريخ، هو الجمود وعدم قابليّتهم في تشخيص الأهم عن المهم وعصيانهم على تغيير التكليف. فإنهم يحترمون ظاهر القرآن مطلقا، ولو دعا إلى الحكمية في صفّين. ويحترمون دم المسلم مطلقا، ولو خرج على أمير المؤمنين(ع). ومناسك الحج عندهم خط أحمر مطلقا، ولو كان الحسين(ع) مغادرا مكّة. والصلح مع العدوّ عندهم ذنب لا يُغفَر مطلقا، ولو كان الإمام الحسن(ع) قد اتخذ هذا القرار. لا يعقلون أن تارة يجب الصراخ وتارة يجب السكوت، وتارة تجب الحرب وتارة يجب الصلح، وتارة يجب التضحية بالمهمّ في سبيل أمر أهمّ، وتارة لابدّ من ترك واجب كالحج في سبيل أمر أوجب كالجهاد، وتارة تقتضي ظروف امان والمكان أن يُصبح استعمال التنباك بأي نحو كان بمثابة محاربة الإمام الحجة(عج)، ثمّ يُباح بعد فترة قليلة بانتفاء تلك الظروف. فما أبعد هذه النفسيّة الجافّة الجامدة عن روح الإسلام الذي يريد أن يكون المسلم متأهبّا لاستلام الأوامر الجديدة والمستحدثة؛ هذا الإسلام الذي نشأ في مكّة، ولكن بعد ثلاثة عشر عاما وبعد الهجرة إلى المدينة، حرّم الإقامة في مكّة إلى حين فتحها؛ الإسلام الذي أراد أن يكون أتباعه منعطفين إلى درجة قبول تغيير القبلة، والذي لم يغيّر قبلة المسلمين إلا ليميز بين المطيع وغيره (وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتي‏ كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى‏ عَقِبَيْه‏)[البقرة/143]. وسيكون لهؤلاء المتخشّبين السفهاء والمقدّسين الحمقى موقف سوء من الإمام المهدي(عج) الذي سيصدر بمقتضى ظروفه الاستثنائية أعجب الأحكام ويتخذ أغرب القرارات حتى كأنه يأتي بدين جديد.     


إن ما سجّله أبناء مدرسة أهل البيت عليهم السلام على مرّ التاريخ ولا سيما في عصرنا الحاضر من صور المقاومة والشجاعة والغيرة ورفض الذّل أكثر وأروع بكثير من باقي الأمم على الرغم من شدّة العداء على الشيعة وكثرة التطاول عليهم. ما أكثرَ الشعوبَ المظلومة والمضطهدة التي استُعبدت وهتكت أعراضُها بل نُهبت نساؤها إماءً، أما الشيعة فتاريخهم لا يحكي عن مثل هذه المآسي إلا ما ندر. فلم تُستَبَح مدينةٌ شيعيّة كما استبيحت المدينةُ في واقعة الحرّة ولم يظفر الأعداء باستعباد رجال ونساء من الشيعة كما فعلوا ببعض الشعوب الأفريقيّة أو ما فعلت داعش بغير الشيعة.
ما الذي يملكه الشيعة ويفقده الآخرون؟! ولمن الفضل يا ترى؟! 
الفضل كله لأبي الفضل العباس عليه السلام! لقد بكينا نحن الشيعة جيلا بعد جيل على العباس لا حزنًا على مصابه فحسب، بل إعجابًا بحميّته وفخرًا بغيرته واعتزازًا بشجاعته وابتهاجًا بقامته واغتباطًا بهيبته أيضًا. بكينا على خيبة أمله في الدفاع عن بنات رسول الله أكثر من بكائنا على جراحه ومصرعه. لقد تجرّع العبّاس يوم عاشوراء لوعة خيبة الأمل في الذبّ عن حرم رسول الله، واللهُ وحده يعلم كيف تقطع قلبه حزنًا على سبيهم. إن بلاءً كهذا قدره الله لعبده الصالح يوم عاشوراء، فقد حال بينه وبين كلّ طموحه وأمانيه من المبارزة في الميدان بين يدي أخيه الحسين وسقي حرم رسول الله والحفاظ عليهن من السبي. إنها لصفقة مربحة بين المولى والعبد؛ سلبه كلّ شيء ليعطيه كلّ شيء. لقد أطلق الله يدي العباس ومكّنه من أن يدسّ في عروق كل من فُجِع بمصابه جُرَعًا من الغيرة والحمية والشجاعة ما حفظت بها أعراضنا على مرّ العصور وفي خضم عداء ألد أعداء الحق. نعم لم يعد العباس خائبًا في الحفاظ على أعراض شيعة أمير المؤمنين عليه السلام. 
ها قد تركت مصائب العباس أثرها في نفوسنا ولم يتجسد كل أثرها فينا بعد. المستقبل إن شاء الله زاهر ومشرق وسيخرج جيل من الشباب لهم هيبة في قلوب الأعداء وبهم سينصر الله مهدي هذه الأمة. إنهم نتاج مصائب العباس بل هديةٌ إلى المهديّ(عج) من عَمِّه.

 


آخرین ارسال ها

آخرین وبلاگ ها

آخرین جستجو ها